بعد أن علمنا في رحلتنا الباحثة عن أصل الوجود أن لهذا الكون خالقاً ، وأنه بالغ العلم والحكمة ، تتشوف النفس بحس البداهة وهاجس الشوق إلى معرفة غاية الخالق من [ خلق ] الإنسان في الأرض .
للعقل أن يتصور سبلاً متنوعة لاتصال الخالق الأحد بالبشر [ ليخبرهم بحكمة خلقهم ] ، وهذه السبل على نوعين :
أ – هداية سماوية .
ب – اجتهاد ذاتي من الإنسان .
والإنسان لا يستغني عن [ الهداية السماوية ] لأسباب عدة :
أولها : أن ما غاب كلية عن مدارك العقل والحس يقضي بالحاجة إلى تطلبها عن طريق الجواب الخارجي .
وثانيها : أن الكثير من مسائل النظر قد تتكافأ فيها الأدلة ، ولا ينحسم فيها القول ؛ ولذلك يحتاج [ الإنسان ] الذي يسعى إلى اكتساب الحق والفضيلة إلى ما يبلّغه رجاؤه بأمانٍ ويقين .
وثالثها : أن حاجة الناس لتنظيم معايشهم ، ودفع الاختصام ، وتنظيم حقوقهم وواجباتهم ، أمرٌ أعقد من أن يحسنه البشر الذين تقصر مداركهم عن ربط الأمور ببعضها على أسلم صورة في ظل تداخلها المعقد ، وأثر الثقافات والعوائد على عقول الناس عند تأسيسهم لقوانينهم ، وسلطان حظوظ النفس والانتصار للكبراء والأصفياء عند رسم حدود الحقوق وخط الواجبات . [فالإنسان ] ليس بمنأى عن مكر الهوى ودواعي الفتنة المزلة .
ورابعها : أنّ إقامة الحجة على الخلق ببلاغ من رسول أوضحُ في الإبانة عن الحق ، وأعدل في تنبيه الخلائق على تنوّع [ عقولهم واختلاف عاداتهم وغير ذلك ]
وخامسها : أن تأييد النبي بالخوارق أدعى للقبول وإقامة الحجة على المخالف ؛ فإن آيات الأنبياء تلزم العقل الواعي أن يلحق بالركب فلا يتيه في معترك الاجتهادات التي لا ضمانة على صوابها .
وسادسها : أن النبوة طريق عملي للسير في سبل الحياة ، والنبي هو المثال والقدوة .
وللمرء [ بعد علمه بضرورة هداية الرب ] أن يتصور طرقاً مختلفة لإبلاغ الرب عباده بما يريده منهم ، وما يريده لهم ، ولكن تبقى صورة تبليغ الرسالة عن طريق بشر عاقل من خيرة قومه ، يجمع بين الصدق ووفرة العقل والخوارق الدالة على صلته بمالك الملك ، أقرب الصور لتحقيق أغراض الرسالة بإقناع الناس وتفصيل الخبر لهم بحكمة وعدل .
– هل القول بأن الله اختص برسالته بعض البشر يضيّق رحمة الله ؟
النبوة ليست فعلاً اعتباطياً مجرداً عن الحكمة والعدل ، وإنما يجتبي الله من البشر أصفياءه ، وهم النخبة الذين تزكّت أنفسهم ، وعقولهم ، وقلوبهم ، وهو يعلم دخيلة النفوس وأفعال الجوارح ، وما كان منهم وما يكون .
والأنبياء يتعرّضون إلى المحن قبل الاصطفاء وبعده ، بل الأنبياء أعظم الناس بلاء ، وحياتهم مكابدة وعنت .
وبذل ” الوحي الخاص ” لكل البشر ليس من أفعال الحكمة ؛ إذ الطريق إلى الجنة سبيله التصديق والعمل ، وأصل التصديق الإيمان بما جاء به الخبر ، ولو أن الناس أُلزموا بالتصديق إكراهاً بما يرونه من وحي ينزل عليهم لانتفت عامة أوجه [ الاختبار ] ، واستوى الناس في مقام التفاضل .
إن أصل الشبهة التي تقرر أفضلية عموم [ النبوة ] للبشر على انتخاب الأنبياء للبلاغ هو الظن أنّ كمال الله يقتضي منع الخلق من الخطأ والخطيئة ، وإلزامهم طريق التقوى دون عناء بأن تسوقهم يد القهر إلى مراتع النجاة .
وحقيقة الألوهية – على الصواب – لا تقتضي ضرورة وجود خلق بلا إرادة حرة تختار طريقها ؛ فإن معنى العدل هو ألّا يعذب الإله من لم يزل ، وأن يرفع الصالحين فوق من ضل عن طريق الحق ؛ فالجزاء رهين أفعال العباد ، إلا أن يعفو الخالق تكرمًا أو يزيد فضلاً .
والإنسان إذا امتلك عقلاً ، وإرادة حرة ، و [ قدرة ] ، وبلغه خبر النبي ، لزمه تصديق النبي فيما أخبر ، والعمل بما جاء به الشرع ، وإذا قصّر في ذلك فهو مذنب ، وإنزال الوعيد به هو عين العدل .